الاستقصاء في اللغة هو تقصي الأشياء إن كانت كائنات حيّة من بشر وحيوانات، أو من جماد. أي تتبع الأثر من لحظة التحرك للنهاية.
في الصحافة فإنّ الاستقصاء هو قيام الصحفي أو مجموعة من الصحفيين في إجراء عمليات البحث والتمحيص في موضوع محدد، والنظر في أعماق هذا الموضوع وتتبع كافة الخيوط ذات الصلة به. ثمّ العمل على معرفة الأسباب والملابسات والدوافع والأطراف المسببة. معرفة الأهداف والغايات واختيار الوقت. كذلك الوصول إلى معرفة الجهات المستفيدة وتلك المتضررة. إنّها باختصار معالجة تحليلية عميقة وشاملة لقضية ما، مدعومة بالأدلة والوثائق والقرائن والصور والتسجيلات الصوتية. كلّ هذه الخطوات تجري بدقة عالية وشفافية ضمن منهاج مهني وموضوعي.
لا شك أنّ اعتماد أسلوب العمل الصحفي الاستقصائي هو أنجع وسيلة كي يصل الصحفي والإعلامي إلى الحقيقة من دون التأثر بأي حال من الأحوال بالعوامل التي تتحكم بصناعة الخبر وتسويق الإعلام.
الصحافة الاستقصائية عمل شاق ودؤوب وخطر، يهتم في متابعة الأنشطة المرتبطة بكافة مفاصل المجتمع، مثل الأداء الحكومي، تجارة الممنوعات، غسيل الأموال، الجرائم الجنائية الكبرى، قضايا البيئة، تجارة الرقيق، تجارة الأعضاء البشرية، الاغتيالات السياسية، الاعتقالات لأصحاب الرأي، الفساد السياسي، تبييض صورة أصحاب رؤوس الأموال المشبوهين... إلخ من قضايا هامة تتعلق بالمجتمع وحياة البشر.
إجراء التحقيقات والمتابعات الصحفية الاستقصائية تحتاج إلى صحفيين وإعلاميين من ذوي الخبرة في مجال عملهم، كي يتمكنوا من استخراج المعلومات الكامنة خلف أية قضية، ثمّ الاستفادة القصوى من أية بيانات متوفرة، والمقدرة على تحليل الوقائع واستنتاج الدوافع، للوصول إلى ربط الأحداث فيما بينها لإظهار الحقيقة.
إنّ الصحافة الاستقصائية مكلفة مالياً، لذلك فإنّها تحتاج إلى موارد مالية كبيرة من قبل مؤسسة إعلامية أو مؤسسات المجتمع المدني، كي تتمكن من إنجاز مهمّتها. الصحفي الاستقصائي أثناء أداء مهمّته قد يضطر للسفر إلى دول كثيرة، أو إلى مدن متعدّدة في البلد الواحد، ويحتاج إلى مساعدات لوجستية، ومعدات خاصّة من أجهزة تصوير وتسجيل وخلافه.
الصحافة الاستقصائية صحافة غير تقليدية، ولا تعتمد على نشر خبر، إنما تسعى لكشف ما لم يظهر وراء هذا الخبر، وأسباب إخفاء ما لم يعلن.
إذن يمكن أن نحدّد الصحافة الاستقصائية على أنّها نوع من التحقيقات الصحفية يعتمد على:
- وجود مؤسسة إعلامية تتبنى قضية وتسعى للكشف عن ملابساتها.
- التحقيق في عمق أية قضية مثارة.
- عملية بحث وتحقيق وتنقيب طويلة وشاقة.
- وجود صحفيين مخضرمين من أصحاب الخبرات المتطورة.
- استعمال المهارات في ربط المعلومات، والقدرة على تحليل البيانات، إيجاد الصلة بين العناصر.
- صحافة مستقلة لا وجود للمصالح الشخصية فيها.
- اعتماد أساليب وطُرق معينة في الصياغة والنشر.
- وجود موارد مالية وإمكانيات لوجستية وتجهيزات فنية وإدارية.
نظرة تاريخية حول الصحافة الاستقصائية:
عرف العالم الصحافة الاستقصائية أوّل مرّة في بداية القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال نشاط قام به عدد من الصحفيين الأمريكيين الذين سعوا إلى الكشف عن الفساد بكافة أنواعه ومحاربته، ونشر نتائج تحقيقاتهم على العامّة مرفقة بالصور والوثائق. وتشكّل أوّل اتحاد للصحفيين الاستقصائيين في أمريكا عام 1976.
أسهمت الصحافة الاستقصائية عبر تاريخها في كشف أسرار كثير من القضايا الحيوية التي تمس مصلحة المجتمع في العالم الغربي من أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وأجبرت أصحاب القرار على اتخاذ قرارات وخطوات لإجراء إصلاحات في قطاعات متعددة. بهذا تكون الصحافة الاستقصائية تلعب دوراً هاماً مكافحة الفساد والجريمة المنظمة.
كان لجهود رجال الصحافة الاستقصائية الفضل الأكبر في محاربة المافيا الأمريكية منذ أربعينيات القرن العشرين والقضاء عليها، عبر متابعة وتنصت ومراقبة لرجال العصابات، وتم تقديم نتائج ذاك العمل الشاق إلى السلطات، حيث قامت الأجهزة الأمنية تحت ضغط الصحافة والرأي العام في إلقاء القبض على رجال المافيا وتقديمهم للمحاكم، بعد أن كانوا متواطئين معهم.
وقد دفع عدد من الصحفيين حينذاك حياتهم ثمناً لعملهم وسعيهم إلى كشف الحقيقة.
بعد ذلك شق هذا الأسلوب في العمل الصحفي طريقه إلى أماكن متعدّدة في العالم. حيث باتت الصحافة الاستقصائية في هذه الأيام تعتمدها الكثير من المؤسسات الإعلامية، وهي تنمو وتتطوّر وتتسع وتلعب دوراً متزايداً في الكشف عن القضايا الكبرى في المجتمعات، تلك النوع من القضايا التي لا يستطيع الإعلام العادي متابعتها ومعالجتها.
إنّ الصحافة الاستقصائية ليست هي نفسها الصحافة المتخصصة، ولكن الصحفيون المتخصصون قد يستعينون من بعض تقنيات الصحافة الاستقصائية، لكنّهما نمطان مختلفان من الصحافة. وليست هي الصحافة الناقدة، حيث أنّ مهمّة الاستقصاء أبعد وأعمق من النقد. كما أنّها ليست التغطية الإعلامية للقضايا الهامة، حتى لو كانت قضايا حيوية كبرى، مثل جرائم الفساد، والجريمة المنظمة، وخلافه.
قواعد ومعايير الصحافة الاستقصائية:
إنّ للصحافة الاستقصائية دوراً هاماً في التوصل للحقائق في القضايا الهامة، الكشف عن الجرائم والفضائح الكبرى وربطها بالفاعل الحقيقي. هي أيضاً طريقة لتبيان الصدق من الكذب، والتأكد من حجم القضية الحقيقي دون تضخيم أو تقزيم مقصود من قبل جهات ما. بهذا المعنى فهي وسيلة رقابية فعّالة، ويمكن لها أن تصنع رأي عام حول قضية ما. كما أنّها تعبّد الطريق أمام تدخل الأجهزة الرسمية في خطوة لاحقة.
على الصحافة الاستقصائية اعتماد مبدأ توثيق المعلومات والبيانات التي يتم الحصول عليها. وحين نشر أية تقارير مرتبطة بقضية ما، يجب أن تكون واضحة ومحددة ودقيقة وتدعّم بالأدلة والبراهين. كما لا يجوز أن تتضمن تقارير النشر أية اقتحام لخصوصية الناس، وعدم التعرض للأديان والعقائد، والحرص على عدم إثارة النعرات الطائفية والعنصرية والمذهبية.
وعدم نشر ثقافة الكراهية، والابتعاد عن استخدام المصطلحات المبتذلة، وعدم نشر الصور الفاضحة، كما يجب أن يكون واضحاً للقارئ الحدود الفاصلة بين البيانات والمعلومات وبين وجهات النظر والآراء ومواقف الصحفيين ومؤسستهم الإعلامية. كما يجب الاشارة إلى أنّ حقّ الرد مصان لجميع الأطراف المعنيين بالموضوع قيد المتابعة والنشر، وأن تحترم المؤسسة الإعلامية سرية مصادر المعلومات التي حصلت عليها.
أيضاً من المهم أن تتم متابعة قضية حقيقية وليست مفتعلة، والابتعاد عن أساليب الكذب والخداع والغش في المتابعة والكتابة. ولأنّ الصحافة الاستقصائية صحافة متابعة بعمق، على الصحفي الاستقصائي أن يكون يقظاً تجاه كافة التفاصيل المرتبطة بالقضية والتيقن من صحتها، ثم ربطها مع الوقائع الأخرى، وأهمية إيجاد الأدلة والقرائن، وحماية مصادر المعلومات.
الصحافة الاستقصائية لا تستطيع التنصت على اتصالات الناس، ولا الدخول إلى أملاك خاصّة دون موافقة أصحابها. وعلى الصحفي الاستقصائي أن يبلغ الجهات الأمنية الرسمية في حال تعرضه للتهديد من قبل أية جهة كانت، وأن يتعامل مع التهديدات بجدية كبيرة.
العلاقة بين الصحافة الاستقصائية وصحافة التحقيق:
إنّ التحقيق الصحفي كما علّمتنا المدارس الصحفية هو التفتيش والتنقيب في قضية ما بهدف الإحاطة بكافة الخيوط المرتبطة بها، والوصول إلى معرفة الدافع والهدف، ثمّ عرض هذه القضية على الجمهور كما هي مشفوعة برأي الصحفي أو مؤسسته التي يعمل بها.
فالتحقيق الصحفي يستند أساساً على التقاط قضية مجتمعية معينة، وليس بالضرورة أن تكون قضية إشكالية، ربّما تكون قضية إيجابية مثل إنجاز ما في ميدان ما من ميادين الحياة، ويقوم الصحفي بداية في إنجاز عملية البحث عن مصادر وعن بيانات ومعلومات متعلقة بقضيته، ويجمع الآراء والمواقف التي تتصل بها، ثمّ قد يحتاج إلى إجراء بعض المقابلات الشخصية مع ناس يرتبطون بموضوع التحقيق. بعد ذلك يقوم الصحفي بصياغة التحقيق من المادّة الصحفية التي حصل عليها، ويقترح حلولاً لمعالجة الإشكالية موضوع التحقيق، أو بقدم اقتراحات ما ضمن تحقيقه. وعادة يرتبط التحقيق الصحفي بالوقائع المتصلة بحياتنا والتي تهم المجتمع أفراداً ومؤسسات. وفي بعض الأحيان قد يؤدي التقرير الصحفي بعد نشره إلى نقاشات وحوارات بين أفراد أو جهات رسمية وشعبية.
فيما يتعلق بالصحافة الاستقصائية فإنّها صحافة تعتمد على الكشف والبحث والتحقيق، ثمّ التيقن من صحّة البيانات والمواد التي سوف يتم نشرها، وبهذا فإنّ التحقيق الصحفي يكون جزءاً مهماً من الصحافة الاستقصائية التي أصبحت أداة مهمّة لمكافحة الفساد والكسف عن الجرائم الكبيرة في الدول الغربية وتلك الدول التي تمتلك أنظمة سياسية ديمقراطية. كما أنّ الصحافة الاستقصائية هي التي تقوم بإظهار القضايا الكبرى في المجتمعات والتي عادة لا ترغب السلطة في تسليط الأضواء عليها.
التحقيق الصحفي الاستقصائي نمط صحفي يعتمد على الجمع بين جميع الفنون التحريرية الصحفية. هذا النوع من العمل الصحفي صعب ويحتاج كفاءة وخبرة من الصحفي المحرر الاستقصائي، لأنّ قدرة الصحفي على التقصي والتحليل والربط وإعداد التحقيق هو ما يمنح هذا التحقيق قيمته المهنية ومدى استطاعته في التأثير على المجتمع.
يتميز التقرير الصحفي الاستقصائي بأنّه عمل يقوم به الصحفي من بدايته حتى نهايته. هو ليس تجميعاً لمواد وبيانات قام بها آخرون، ولا إعادة معالجة حقائق توصل لها صحفيون آخرون، بل التقرير الاستقصائي هو مادّة أصيلة يقوم بإنجازها الصحفي، ويمكن إجراء مقارنات ومقاربات مع تقارير وبيانات موجودة وربط لوقائع بهدف الوصول لنتائج لم تكن معروفة سابقاً.
أيضاً التقرير الاستقصائي قد يتطلب إنجازه وقتاً طويلاً، ومن الممكن أن يشترك أكثر من صحفي في الإعداد بسبب عمق البحث الذي ربما يستدعي من الصحفي السفر إلى أماكن متعدّدة، وأحياناً بسبب قلة الأدلة التي يتم التوصل إليها.
في التقارير الصحفية الاستقصائية يقوم الصحفي باختراق حواجز السرية وتقتحم الأبواب المغلقة التي عادة لا يتم فتحها أمام الصحافيين العاديين الذين يحررون التقارير اليومية. الصحفي الاستقصائي لا يقبل برفض المؤسسات الرسمية والشعبية الكشف عن عملها وتقديم معلومات عنها.
ولأنّ الصحافة الاستقصائية صحافة تسبر أغوار مناطق وأماكن غير اعتيادية، فإنّ حجم المخاطر مرتفع في هذا النوع من الصحافة قد يصل إلى مستوى تعريض حياة الصحفي للخطر. وإن وقع الصحفي لسبب ما في أخطاء بحثية قد يكلف هذا الأمر المؤسسة الصحفية مبالغ ضخمة.
فيما يتعلق بالعالم العربي فإنّ هذا النوع من الصحافة لا يستخدم كثيراً، وما زال انتشاره في أضيق الحدود، إذ أنّه يواجه إشكاليات وتحديات كبيرة ومتنوعة ترتبط في غياب الوعي لدى المؤسسات الرسمية والشعبية لأهمية هذا النوع من الصحافة، والدور الذي يمكن أن تقوم به في التنمية المجتمعية، ورصد ومراقبة أداء الهيئات العامة.
كما أنّ غياب الحياة الديمقراطية والبرلمانية في معظم الدول العربية، ووجود توافقات سياسية وحزبية، وغياب معارضات سياسية حقيقية ما زال يشكّل عائقاً أمام تطوّر الصحافة الاستقصائية في العالم العربي. وهناك غياب في كثير من الدول العربية للأُطر والتشريعات القانونية تقوم بتنظيم حرّية تداول المعلومات، وعدم وجود رؤى إستراتيجية لدى الدول العربية تتعلق بآليات هذا النوع من العمل الصحفي، فضلاً عن القصور القانوني والثقافي والمهني لدى العديد من الصحفيين، وعدم رغبة الكثير منهم الخوض في تجربة الصحافة الاستقصائية للمشقات والخطر الذي قد يتعرضون له أثناء إنجاز عملهم، وخشيتهم من الفشل، ومن التعرض لدعاوي قضائية. ومن المعيقات أيضاً ندرة المؤسسات الإعلامية العربية التي تدعم الصحفي وتمول عمله الاستقصائي وترصد له ميزانية للتنقل والمصاريف المختلفة. ومعارضة أصحاب مؤسسات إعلامية أو مسؤولين عن الإعلام الرسمي لنشر قضايا مثيرة للجدل في المجتمع، نتيجة الخوف من العقوبة ومن الأشخاص ذوي النفوذ السياسي والمالي، ونتيجة التهديد بالسلامة الشخصية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق